يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «الصبيُ أمانة عند والديه، وقلبُه الطاهرُ جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عُوّد الشر وأُهمِل إهمال البهائم شقي وهلك». ويقدم الإسلام -كمنهج رباني- أروع النماذج في الحفاظ على النشء منذ نعومة أظفاره، وتهيئته وإعداده إعداداً جيداً ليتحمل المسؤولية المنوطة به، فيشب جيل من الرجال الصغار.
ومن الأسس التي ركز على عظم أهميتها الإسلام: سلامة الأولاد نفسياً وعقلياً وبدنياً وعاطفياً. ولقد دعت الشريعة السمحة إلى احترام عقل الطفل والتعامل معه من منطلق واعٍ، وتعليمه أوامر الله والتأدب مع الخلق، محذرة من الاستخفاف به وبمقدراته وأفكاره وتساؤلاته التي يطرحها أمام الكبار.
يحكي الصحابي الجليل «عبدالله بن عباس» (رضي الله عنهما) فيقول: «كنت خلف النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً فقال: يا غلام إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف». كانت تلك بمثابة بذور ينثرها محمد (صلى الله عليه وسلم) مربياً وهادياً، فبهذه اللغة المحددة الجامعة، وبهذا المنطق الرصين، وبهذا القدر من المسؤولية يخاطب خاتم الرسل طفلاً، ثم يحفظ هذا الطفل الوحي النبوي فيبلغه إلى الناس ويظل هدياً نبوياً لجميع أفراد الأمة إلى قيام الساعة. كانت تلك هي السمات التي تربى عليها الرعيل الأول من المسلمين، إذ كان الآباء والمربون ينظرون إلى الطفل ويتعاملون معه من منطلق مسؤول، لعلمهم أنه رجل المستقبل بما تستلزم هذه الصفة من أخلاق وآداب ومعتقدات، فكانوا يؤدبون أولادهم على الصدق -مع النفس ومع الناس وأمام الله- والشجاعة والإخلاص ومراقبة الله في السر والعلن.
قال «سهل بن عبدالله التستري»، وهو من كبار علماء السلف: «كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل، فأنظر إلى صلاة خالي (محمد بن سوار)، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة، إحدى عشرة مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: أحفظ ما علمتك ودُم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه، وناظراً إليه، وشاهده.. أيعصيه؟ إياك والمعصية». ومن مثل هذا الدرس البسيط من مربٍ وقدوة، أصبح «سهل» -فيما بعد- من كبار العلماء، وواحدا من رجال الله الصالحين.. بفضل خاله الذي أدبه، وعلمه، ورباه، وغرس في روحه منذ صغره أكرم معاني الإيمان والمراقبة، وأنبل مكارم الأخلاق.
وأيضاً من أهم الصفات التي كان يحث الإسلام على غرسها في نفوس الصغار «الشجاعة» مع النفس ومع الخلق، حتى لا يشبوا ضعفاء النفوس مهزومين تضرب بقلوبهم أمراض الانحلال والميوعة، فكان أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» (رضي الله عنه) يمر ذات يوم في طريق من طرق المدينة، والأطفال يلعبون، وفيهم عبدالله بن الزبير وهو طفل يلعب، فهرب الأطفال هيبة من عمر، ووقف عبدالله وحده ساكتاً لم يهرب، فلما وصل إليه عمر قال له: لِمَ لمْ تهرب مع الصبيان؟ فقال: لستُ جانياً فأفر منك، وليس في الطريق ضيق فأوسع لك. وكان حقاً جواباً جريئاً سديداً رغم أنه خرج من طفل.
ومما يؤخذ من هذه الواقعة أيضاً أن أبناء الصحابة (رضي الله عنهم) كانوا على جانب عظيم من الجرأة الفائقة والبطولة النادرة، وما ذاك إلا بفضل التربية القويمة التي تلقوها بالبيت المسلم والمجتمع المؤمن في ظلال شجرة النبوة الوارفة، حيث نشأ هذا الجيل الفريد على هذه الشيم، ودرجوا عليها، لأنهم تربوا على الرماية والفروسية، وتعودوا الأسفار والترحال، ولم يتربوا على الدلال المفرط، والانطوائية القاتلة.
ومن أساليب التربية الخاطئة التي يقع الكثيرون فيها من الآباء والأمهات، تخويف الطفل وترويعه -ولاسيما عند البكاء- بأشياء لا وجود لها كالغول والعفريت والحرامي و «العوو».. ومما ينصح به علماء النفس والتربية في هذا الشأن، قولهم: «لا بأس بأن نجعل الطفل أكثر تعرفاً للشيء الذي يخيفه، فإذا كان يخاف الظلام فلا بأس بأن نداعبه بإطفاء النور ثم إشعاله، وإن كان يخاف الماء فلا بأس بأن نسمح له بأن يلعب بقليل من الماء في إناء صغير أو ما شابه، وإن كان يخاف من آلة كهربائية كمكنسة كهربائية مثلاً فلا بأس بأن نعطيه أجزاءها ليلعب بها ثم نسمح له بأن يلعب بها كاملة، وهكذا».. وذلك ليتحرر الولد من شبح الخوف والأوهام التي قد تزرع في مخيلته وينشأ عليها فيكون لها أثر المعول الهدام في نفسه فلا يقوى على مواجهة الحياة ولا يجرؤ على الدفاع عن حقوقه.